د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
هل يجوز سفر المرأة إلى الحج أو العمرة دون محرم؟ سؤال يغفل بعضنا عن إجابته، وخاصة مع التطورات الاجتماعية في مجتماعاتنا الإسلامية ودخول مفاهيم وأفكار
السؤال:
هل يجوز سفر المرأة إلى الحج أو العمرة دون محرم؟
الجواب:
الحج ركن من أركان الإسلام، وذلك على الرجل والمرأة، ولكن ربط الشرع الرحيم هذا الركن بالاستطاعة؛ فقال تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: 97]، وهذه من الرحمة البالغة لله عز وجل، ويدخل في هذه الاستطاعة القدرة البدنيَّة والصحيَّة، وكذا القدرة الماليَّة، بالإضافة إلى توفُّر الأمن، والقدرة على استخراج التأشيرة اللازمة لدخول الأراضي المقدَّسة، وهذا كلُّه عامٌّ على الرجل والمرأة، غير أنَّ هناك أمرًا آخر بالنسبة إلى المرأة؛ وهو توفُّر محرمٍ لها؛ مثل زوجها، أو أبوها، أو ابنها، أو أخوها.. أو نحوهم من محارمها.
فالأصل أنَّ الشرع نهى عن سفر المرأة دون محرم بشكل عامٍّ؛ لِمَا قد يترتَّب عليه من الفتنة لها ولِمَنْ حولها من الرجال، والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة مثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ» [1]. ولفظ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» [2].. بل روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، وَلاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ». فقام رجل فقال: يا رسول الله؛ اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا، وخَرَجَتِ امرأتي حاجَّةً. قال: «اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» [3]. فهو هنا يأمر الرجل الذي اكتتب في الغزو أن يلحق بأهله الذين خرجوا للحج، ولا يذهب للجهاد في سبيل الله، وقال النووي: تعليقًا على هذا الموقف: فيه تقديم الأهم من الأمور المتعارضة؛ لأنَّه لمـَّا تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها، رجح الحج معها؛ لأنَّ الغزو يقوم غيره في مقامه عنه بخلاف الحج معها [4]. حتى قال أصحاب هذا الرأي: إنَّ المرأة إذا أيست من وجود المحرم لزمها أن تستنيب مَنْ يحجُّ عنها، ولا تخرج بمفردها [5].
ومع ذلك فقد رأى المالكية والشافعية أنَّ المرأة لو لم تجد محرمًا فإنَّه يُمكنها أن تخرج للحجِّ مع رفقة مأمونة: «وليس من شروط وجوب الحجِّ على المرأة وجود الزَّوج أو المحرم؛ بل تَخْرُجُ إذا وَجَدَتْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً، سواءٌ كانت شابَّةً أو عجوزًا؛ والرُّفقة المأمونة الرجال الصالحون، وقيل: حتَّى يكون بَعْضُهُمْ نِسَاءً» [6].
ولفضيلة الشيخ عطية صقر فتوى في ذلك يقول فيها:
روى البخارى ومسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا يَكُونُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، إِلاَّ وَمَعَهَا أَبُوهَا، أَوِ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» [7]. ورويا -أيضًا- أنَّ رجلًا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّه اكتتب في الغزو، وإنَّ امرأته قد خرجت للحج. فقال له: «اذْهَبْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» [8]. إزاء هذين النصَّين وغيرهما اختلف العلماء في اشتراط المحرم في وجوب الحجِّ على المرأة، وبعيدًا عن اختلافهم في تقدير المسافة، قال الحنفية: لا بُدَّ من وجود الزوج أو المحرم، إلاَّ أن يكون بينها وبين مكَّة أقل من 136.5كم تقريبًا. وقال الشافعي في المشهور عنه كما ذكره النووي في شرح صحيح مسلم (9/104): لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها. وقال أصحابه: يحصل الأمن بزوج أو محرم أو نسوة ثقات.
وقال بعضهم: يلزمها -أي الحج- بوجود امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة، ويقول النووي: المشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول، أي الأمن على نفسها بالزوج أو المحرم أو النسوة الثقات. والإمام مالك لا يشترط الزوج أو المحرم في سفر الفريضة، وقال الباجي من المالكية: إن الكبيرة غير المشتهاة يجوز سفرها بلا زوج ولا محرم. ورفض القاضي عياض هذا القول؛ لأن المرأة مظنَّة الطمع والشهوة حتى لو كانت كبيرة، ولوجود السفهاء الذين لا يتورَّعون عن الفحشاء في الأسفار. والإمام أحمد اشترط وجود الزوج أو المحرم في وجوب الحج عليها، وفي رواية أخرى عنه: لا يشترط ذلك في سفر الفريضة. يقول النووي بعد حكاية مذهب الشافعي: إن هذا الخلاف إنما هو في الحج الواجب، أمَّا حجُّ التطوُّع وسفر الزيارة والتجارة وما ليس بواجب، فقال بعضهم: يجوز خروجها مع نسوة ثقات.
وقال الجمهور: لا يجوز إلا مع زوج أو محرم. وهذا هو الصحيح، ونُوَجِّه النظر إلى أنَّ مَنِ اشترط المحرم أو الزوج اشترطه لوجوب الحجِّ عليها، ولرفع الإثم والحرج عنها لو سافرت دونه، لكن لو خرجت للحج دون ذلك فإن حجها صحيح متى استوفى أركانه وشروطه، وتسقط به الفريضة عنها، ولا تلزمها إعادته مع محرم، وإن كانت قد أثمت لخروجها دون الزوج أو المحرم، أو ما يقوم مقامهما على الوجه المذكور.
الحكمة في اشتراط المحرم
والحكمة في اشتراط المحرم أو الزوج هي توفير الأمن للمرأة في السفر، ومساعدتها على قضاء مصالحها التي تحتاج إلى اختلاط أو تعب، وقد يكون لتطور وسائل السفر وقصر مدَّة الغياب عن الوطن، مع توافر كل المستلزمات من ضروريات وكماليات، وسهولة الحصول عليها، ومع استتباب الأمن؛ حيث تُؤَدَّى الشعائر بِيُسر، بالقياس إلى أزمان سبقت قد يكون لكل ذلك أثره في تغيُّر النظرة عند فهم الحديث الخاصِّ بسفر المرأة وحدها. وقد صحَّ في البخاري من حديث عدي بن حاتم أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له أنه قد يستتب الأمن حتى ترتحل الظعينة من الحيرة وتطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله [9].
وقد رأينا في استعراض آراء الفقهاء -حتى بين علماء المذهب الواحد- اختلاف وجهات النظر في حتمية المحرم أو الزوج، وإمكان الاستعاضة عنهما بالرفقة المأمونة؛ بل في جواز حجها دون مرافق؛ حتى إن ابن حزم في «المحلى» رجَّح عدم وجوب الزوج أو المحرم في سفر الحج، فإذا لم تجد واحدًا منهما تحجُّ ولا شيء عليها. ولذلك أرى أنَّ المدار هو على توفُّر الأمن والراحة لها، فإذا حصل ذلك بأية صورة من الصور، كزوج أو محرم أو رفقة مأمونة أو إشراف رسمي مسئول أو غير ذلك، وجب عليها الحج وسافرت، وقد حج نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أذن لهن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وكان ذلك سُنَّة لأنهن حججن مع الرسول صلى الله عليه وسلم [10].
[1] البخاري: أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة، (1038).
[2] مسلم: كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، (1339).
[3] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يؤذن له، (2844)، ومسلم: كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، (1341).
[4] النووي: المنهاج، 9/110.
[5] ابن مفلح: الفروع وتصحيح الفروع، 5/258، والفوزان: الملخص الفقهي، 1/404.
[6] العدوي: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، 1/518، والموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، 17/35، 36.
[7] البخاري: أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة، (1036)، ومسلم: كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، (1340)، واللفظ له.
[8] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يؤذن له، (2844)، ومسلم: كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، (1341).
[9] الحديث عند البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3595).
[10] وقال الشيخ في نهاية الفتوى: هذه هي خلاصة ما قرأته في المراجع الآتية: شرح النووي لصحيح مسلم 9/104، المغني لابن قدامة 3/195، نيل الأوطار للشوكاني 4/306، 307، والأسرة تحت رعاية الإسلام، 2/230. انظر: فتاوى الأزهر 9/306.
التعليقات
إرسال تعليقك